كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالثة عشرة: قوله تعالى: {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} جرى ذكر الخدمة مطلقًا وقال مالك إنه جائز ويحمل على العرف، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة، وهو ظاهر قصة موسى، فإنه ذكر إجارة مطلقة.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجوز حتى يسمى لأنه مجهول.
وقد ترجم البخاريّ: باب من استأجر أجيرًا فبيّن له الأجل ولم يبيّن له العمل، لقوله تعالى: {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}.
قال المهلّب: ليس كما ترجم؛ لأن العمل عندهم كان معلومًا من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبيّن له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها؛ مثل أن يقول له: إنك تحرث كذا من السنة، وترعى كذا من السنة، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدّة مجهولة، والعمل مجهول غير معهود لا يجوز حتى يعلم.
قال ابن العربي: وقد ذكر أهل التفسير أنه عيّن له رعية الغنم، ولم يرو من طريق صحيحة، ولكن قالوا: إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم، فكان ما عُلم من حاله قائمًا مقام التعيين للخدمة فيه.
الرابعة عشرة: أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهورًا معلومة، بأجرة معلومة، لرعاية غنم معدودة؛ فإن كانت معدودة معينة، ففيها تفصيل لعلمائنا؛ قال ابن القاسم: لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت، وهي رواية ضعيفة جدًا؛ وقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه، وقد رآها ولم يشترط خلفًا؛ وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا.
وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز لجهالتها؛ وعوّل علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفًا؛ وأنه يعطي بقدر ما تحتمل قوّته.
وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوّته، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوّة موسى برفع الحجر.
الخامسة عشرة: قال مالك: وليس على الراعي ضمان وهو مصدَّق فيما هلك أو سرق؛ لأنه أمين كالوكيل.
وقد ترجم البخاري: باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئًا يفسد فأصلح ما يخاف الفساد، وساق حديث كعب بن مالك عن أبيه: أنه كانت لهم غنم ترعى بسَلْع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتًا فكسرت حجرًا فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه فأمره بأكلها؛ قال عبد الله: فيعجبني أنها أمة وأنها ذبحت.
قال المهلّب: فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما ائتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب؛ وهذا قول مالك وجماعة.
قال ابن القاسم: إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة.
وقال غيره: يضمن حتى يبين ما قال.
السادسة عشرة: واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت فقال ابن القاسم: لا ضمان عليه؛ لأن الإنزاء من إصلاح المال ونمائه.
وقال أشهب: عليه الضمان؛ وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كعب، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده، إن كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال؛ وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل؛ لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتًا لما عرف من فسقه.
السابعة عشرة: لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام؛ ولكن روى يحيى بن سلاّم أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلّهن.
وقال غير يحيى: بل جعل له كل بلقاء تولد له، فولدن له كلهن بُلْقًا.
وذكر القُشيري أن شعيبًا لما استأجر موسى قال له: ادخل بيت كذا وخذ عصا من العصيّ التي في البيت، فأخرج موسى عصا، وكان أخرجها آدم من الجنة، وتوارثها الأنبياء حتى صارت إلى شعيب، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى، فدخل وأخرج تلك العصا؛ وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك، فعلم شعيب أن له شأنًا؛ فلما أصبح قال له: سق الأغنام إلى مفرق الطريق، فخذ عن يمينك وليس بها عشب كثير، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشبًا كثيرًا وتنِّينًا كبيرًا لا يقبل المواشي، فساق المواشي إلى مفرق الطريق، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها، فنام موسى وخرج التنِّين، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديدًا وحاربت التنِّين حتى قتلته، وعادت إلى موسى عليه السلام، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم، والتنِّين مقتولًا؛ فعاد إلى شعيب عشاء، وكان شعيب ضريرًا فمس الأغنام، فإذا، أثر الخِصب بادٍ عليها، فسأله عن القصة فأخبره بها، ففرح شعيب وقال: كل ما تلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون أي ذات لونين فهو لك؛ فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة.
وروى عُيَيْنة بن حِصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفّة فرجه» فقال له شعيب لك منها يعني من نتاج غنمه ما جاءت به قالب لون ليس فيها عَزُوزٌ ولا فَشُوشٌ ولا كَمُوشٌ ولا ضَبُوبٌ ولا ثَعُولٌ.
قال الهروي: العزوز البكيئة؛ مأخوذ من العزَاز وهي الأرض الصلبة، وقد تعزَّزت الشاة.
والفَشُوشُ التي يَنْفَشُ لبنُها من غير حلب وذلك لسعة الإحليل، ومثله الفَتُوح والثّرُورُ.
ومن أمثالهم: لأَفُشَّنَّكَ فَشَّ الْوَطْبِ أي لأخرجن غضبك وكبرك من رأسك.
ويقال: فَشّ السِّقاءَ إذا أخرج منه الريح.
ومنه الحديث: «إن الشيطان يَفُشّ بين ألْيَتيْ أحدِكم حتى يُخَيَّلَ إليه أنه أحدث» أي ينفخ نفخًا ضعيفًا.
والكَمُوشُ: الصغيرة الضرع، وهي الكميشة أيضًا؛ سميت بذلك لانكماش ضرعها وهو تقلصه؛ ومنه يقال: رجل كميش الإزار.
والكَشُودُ مثل الكَموش.
والضَّبُوبُ الضيقة ثقب الإحليل.
والضَّبُّ الحَلْب بشدّة العصر.
والثَّعُولُ الشاة التي لها زيادة حلمة وهي الثعل.
والثَّعل زيادة السنّ، وتلك الزيادة هي الرَّاءُول.
ورجل أثعل.
والثعل ضيق مخرج اللبن.
قال الهروي: وتفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها.
الثامنة عشرة: الإجارة بالعوض المجهول لا تجوز؛ فإن ولادة الغنم غير معلومة، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعًا وعِدّتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغَرَر، ونهى عن المضامين والملاقيح.
والمضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر:
مَلْقُوحَة في بطنِ نابٍ حامِلِ

وقد مضى في سورة الحجر بيانه.
على أن راشد بن معمر أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع.
قال ابن سيرين وعطاء: ينسج الثوب بنصيب منه؛ وبه قال أحمد.
التاسعة عشرة: الكفاءة في النكاح معتبرة؛ واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب، أو في بعض ذلك.
والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والقرشيات؛ لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبًا طريدًا خائفًا وحيدًا جائعًا عريانًا فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ورأى من حاله، وأعرض عما سوى ذلك.
وقد تقدّمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله.
الموفية عشرين: قال بعضهم: هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكرًا لصداق المرأة، وإنما كان اشتراطًا لنفسه على ما يفعله الأعراب؛ فإنها تشترط صداق بناتها، وتقول: لي كذا في خاصة نفسي، وترك المهر مفوّضًا؛ ونكاح التفويض جائز.
قال ابن العربي: هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام لا يليق بالأنبياء؛ فأمّا إذا اشترط الوليّ شيئًا لنفسه، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين: أحدهما: أنه جائز.
والآخر: لا يجوز.
والذي يصح عندي التقسيم؛ فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرًا أو ثيبًا؛ فإن كانت ثيبًا جاز؛ لأن نكاحها بيدها، وإنما يكون للوليّ مباشرة العقد، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع.
وإن كانت بكرًا كان العقد بيده، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج وذلك باطل؛ فإن وقع فُسِخ قبل البناء، وثبت بعده على مشهور الرواية.
والحمد لله.
الحادية والعشرون: لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه، ولم يلحق الآخر بالأوّل، ولا اشترك الفرض والطوع؛ ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها، ثم يقال وتطوّع بكذا، فيجري الشرط على سبيله، والطوع على حكمه، وانفصل الواجب من التطوّع.
وقيل: ومن لفظ شعيب حسن في لفظ العقود في النكاح أنكحه إياها أولى من أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في الأحزاب.
وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطًا، ووكل العاشرة إلى المروءة.
الثانية والعشرون: قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} لما فرغ كلام شعيب قرّره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج.
و{أَيَّمَا} استفهام منصوب ب {قَضَيْتُ} و{الأَجَلَيْنِ} مخفوض بإضافة {أي} إليهما و{ما} صلة للتأكيد وفيه معنى الشرط وجوابه {فَلاَ عُدْوَانَ} وأن {عدوان} منصوب ب {لا}.
قال ابن كيسان: {ما} في موضع خفض بإضافة {أي} إليها وهي نكرة و{الأَجَلَيْنِ} بدل منها.
وكذلك في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 159] أي رحمة بدل من ما؛ قال مكي: وكان يتلطف في ألا يجعل شيئًا زائدًا في القرآن، ويخرج له وجهًا يخرجه من الزيادة.
وقرأ الحسن: {أَيْمَا} بسكون الياء.
وقرأ ابن مسعود: {أَيَّ الأَجَلَيْنِ مَا قَضَيْتُ}.
وقرأ الجمهور: {عُدْوَان} بضم العين.
وأبو حَيْوة بكسرها؛ والمعنى: لا تبعة عليّ ولا طلب في الزيادة عليه.
والعدوان التجاوز في غير الواجب، والحجج السنون.
قال الشاعر:
لمن الديار بِقنة الحجر ** أقوين من حِجج ومن دهر

الواحدة حجة بكسر الحاء.
{والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} قيل: هو من قول موسى.
وقيل: هو من قول والد المرأة.
فاكتفى الصالحان صلوات الله عليهما في الإشهاد عليهما بالله ولم يشهدا أحدًا من الخلق، وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح؛ وهي:
الثالثة والعشرون: على قولين: أحدهما أنه لا ينعقد إلا بشاهدين.
وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال مالك: إنه ينعقد دون شهود؛ لأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بين النكاح والسفاح الدُّفُّ.
وقد مضت هذه المسألة في البقرة مستوفاة.
وفي البخاري عن أبي هريرة: أن رجلًا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسْلفه ألف دينار فقال ايتني بالشهداء أشهدهم، فقال كفى بالله شهيدًا؛ فقال ايتني بكفيل؛ فقال كفى بالله كفيلا.
قال صدقت فدفعها إليه؛ وذكر الحديث. اهـ.